كانت المدينة المنورة عاصمة المسلمين العلمية والثقافية من هاجر إليها رسول الله له، ولما تحول الثقل السياسي عنها إلى عواصم الخلافة الأموية والعباسية؛ تركزت الحركة الثقافية في مجموعات من العلماء قد ظهروا في عصر الخلفاء الراشدين وكذلك في عصر التابعين(1)
وسعيد ابن المسيب يرحمه الله، علم من أعلام المدينة المنورة، من كبار التابعين عايش الصحابة رضوان الله عليهم، وأخذ عنهم العلم والخلق، والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، عاش حياته كلها للعبادة، وطلب العلم، حتى صار فقيه الفقهاء.
لازم مسجد رسول الله له، ولم يفارقه حتى في أشد الأوقات، وكان له مكان معروف في المسجد؛ لا يتركه ولا يفارقه إلى غيره، ولا يغادره إلا إلى بيته. وكان يصوم الدهر، ولا يفطر سوى العيدين وأيام التشريق يفطر على التمر والماء في المسجد النبوي، ثم يأكل الخبز والزيت في بيته(2)
سعيد ابن المسيب: مولده ونسبه
هو أبو محمد سعيد ابن المسيب بن حزن بن مخزوم القرشي المدني أمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية بن حارثة السلمي ولد في المدينة المنورة لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي في سنة (١٥هـ).
وروي عنه أنه كان أبوه وجده رضي الله عنهما صحابيان، ويعرف بنو مخزوم بالشدة والصلابة والسيادة في مكة، استشهد جده (حزن) يوم اليمامة سنة (١٢هـ).
نشأ سعيد ابن المسيب وتربى في مدينة رسول الله، عاصمة الخلفاء الراشدين السياسية وعايش عدداً كبيراً من الصحابة رضوان الله عليهم، وكان لهذه النشأة أثرها الكبير في تكوين شخصيته، قوة وعزة وصلابة وزهداً وورعاً، حتى لقب بـ (راهب قريش)(3)
زواجه وأسرته
تزوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه، ويظهر أن له زوجة أخرى هي أم حبيب بنت أبي كريم بن عامر، أنجب منها أولاداً هم: محمد، سعيد، إلياس، أم عمرو، أم عثمان، وله ابنة اسمها مريم(4)
يمكنكم الاطلاع على سيرة إسماعيل الفاروقي.
صفاته وشخصيته
كان الإمام سعيد ابن المسيب، ذو قامة طويلة، ببشرة بيضاء ولحية بيضاء لم يخضبها بالحناء، وكان يحف شاربه ويظهر بشكل واضح دون إخفائه كثيرًا، وقيل إنه كان أعور العين. وقد منحه الله، منذ صغره سنه، ذكاءً متألقًا وذاكرة قوية.
حتى أثبت نفسه أمام كبار الصحابة والتابعين بمكانته الرفيعة في ميدان العلم. وكان يحظى بمكانة رفيعة بين فقهاء المدينة في عصره، حيث كان المرجع في مسائل الفتوى، واشتهر باسم “فقيه الفقهاء”(5)
“لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم، لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة” (سعيد بن المسيب)
علمه ومكانته
كان سعيد ابن المسيب يفتي وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، وكان عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن الشيء وأشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين، هو والله أحد المفتين، حتى سمي فقيه الفقهاء. لقي جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وسمع منهم، وأكثر روايته عن أبي هريرة(6)
اساتذته
أخذ سعيد ابن المسيب علمه عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص، وعبد الله ابن عباس، وابن عمر، ودخل على أزواج النبي، عائشة وأم سلمة رضي الله عنهن، وأخذ عنهن.
وكان قد سمع من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وصهيب الرومي، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص وأبا هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وكان يقال: أنه ليس هناك أحداً أعلم بكل ما قضى به سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عثمان بن عفان من سعيد ابن المسيب.
ويقول عنه قتادة: ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه ويكفي سعيد ابن المسيب فخرًا أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز كان أحد تلاميذه، ولما تولى عمر بن عبد العزيز إمارة المدينة، لم يقض أمرًا إلا بعد استشارة سعيد(7)
محبة سعيد ابن المسيب لعمر بن عبد العزيز
لما كان عمر بن عبد العزيز واليا على المدينة المنورة في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أرسل رسولاً إلى سعيد ابن المسيب ليسأله حول مسألة معينة. ورغم أن سعيد لم يكن يلتمس للأمراء أو الخلفاء أو يذهب إليهم، إلَّا أن الرسول أخطأ في تقديره للأمر.
فأخذ سعيد ابن المسيب نعليه، وقام فجأة للقائه، وحين رآه، قال له عمر بن عبد العزيز: قد عزمت عليك يا أبا محمد، ولكن ارجع إلى مجلسك حتى يستفسر رسولنا منك حول حاجتنا. فإننا لم نرسله ليدعوك، بل أرسلناه ليستفسر منك. ولم يكن في رؤية سعيد مراعاة أن يتخلى عن هذا اللقاء(8)
يمكنكم الاطلاع على فلسفة جباية الدولة عند ابن خلدون.
وفاة الإمام سعيد ابن المسيب
توفي سعيد ابن المسيب رحمه الله عام 94هـ على الأرجح في خلافة الوليد بن عبد الملك (86 – 96هأ)، وكان يقال لهذه السنة: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها، وقد عاش بن المسيب ثمانين سنة، ودفن في البقيع، وهناك من ذكر من أئمة الحديث أنه توفي سنة خمس و مائة من الهجرة(9)
قائمة المصادر والمراجع:
(1). الذهبي (شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: ٧٤٨ هـ): سير أعلام النبلاء، (25 جزء)، ط3، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، تقديم: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، القاهرة، 1985م، ج4، ص245.
(2). ابن سعد (محمد بن سعد بن منيع الزهري، ت: ٢٣٠ هـ): الطبقات الكبرى، (11 جزء)، ت: علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2001م، ج2، ص379.
(3). المرجع السابق، ج2، ص380.
(4). الذهبي، المرجع السابق، ج4، ص225.
(5). المرجع نفسه، ج4، ص245.
(6). ابن سعد: المرجع السابق، ج2، ص381.
(7). الذهبي: المرجع السابق، ج4، ص233.
(8). ابن عبد الحكم (عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع، أبو محمد المصري، ت ٢١٤هـ): سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه، تحقيق: أحمد عبيد، عالم الكتب للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، 1984م، ص27.
(9). الذهبي: المرجع السابق، ج4، ص245.