يُعد العالم أبي الريحان البيروني واحد من مؤسسي علم الهنديات، فقد أمضى سنوات طوال في مخالطة ومعايشة الهنود لفهم عقيدتهم وأسلوب حياتهم من عادات وتقاليد وغيرها فقد أستخدم عدة مناهج في إصدار مجلده الضخم عن الهنود بعنوان: “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذوله” وسيصب موضوع دراستنا عن الموضوعية في هذا الكتاب حصراً. ومن المناهج التي أعتمد عليها في دراسته المنهج الوصفي القائم على الوصف المجرد، والمنهج التجريبي فهو لم يكتف بالوصف، بل سافر إلى القارة الهندية وعايش الهنود حتى علِم منهم الواقع كما هو، ومنهج دراسة الحالة الذي من خلاله أستطاع دراسة الشعوب الهندية وأساليب حياتهم في العيش فدرسهم من التقصي والنظر للحال كما هو بمعنى المتابعة والمشاهدة، والمنهج الاستقرائي أعتمد عليه في الملاحظة والمعاينة والمعايشة دون التدخل أو النقد والتقييم. “كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار المسلمين والتثليث علامة النصرانية والإسبات علامة اليهودية كذلك التناسخ علم النحلة الهندية فمن لم ينتحله لم يكن منها ولم يعد من جملتها” (البيروني، 1983)[1] تناول البيروني شعار الأديان السماوية ليفهم القارئ عند وصف البيروني للعقيدة الهندية أنها قائمة على عقيدة التناسخ بمعنى ولادة الأرواح مرة تلوا الأخرى.
ليس الخبر كالعيان أبرز ما نظَر موضوعاً -البيروني-
“فهذا هو التناسخ إلى أن يحصل من كلتي جنبتي النفس والمادة كمال الغرض” (البيروني، 1983)[2] ثم تناول البيروني أن التناسخ هو الأصل، ولكن توجد هناك استثناءات وهي إمكانيه الخلاص منها عن طريق انتفاء الغرض من التناسخ فتتحقق الغاية منها بالاتحاد مع الكون.
في الطبقات في المجتمع الهندي؛ “”وللهند في أيامنا من ذلك أوفر الحظوظ حتى أن مخالفتنا إياهم وتسويتنا بين الكافة إلا بالتقوى أعظم الحوائل بينهم وبين الإسلام، وهم يسمون طبقاتهم ((برنُ)) أي الألوان ويسمونها من جهة النسب ((جاتك)) أي المواليد، وهذه الطبقات في أول الأمر أربع، علياها ((البراهمة)) قد ذكر في كتبهم أن خلقتهم من رأس ((براهم)) وأن هذا الاسم كناية عن القوة المسماة ((طبيعة)) والرأس علاوة الحيوان فالبراهمة نقاوة الجنس ولذلك صاروا عندهم خيرة الإنس، والطبقة التي تتلوهم ((كشتر)) خلقوا بزعمهم من مناكب براهم ويديه ورتبتهم عن رتبة البراهمة غير متباعدة جداً ودونهم ((بيش)) خلقوا من رجلي براهم، وهاتان المرتبتان الأخيرتان متقاربتان، وعلى تمايزهم تجمع المدنُ والقرى، أربعتهم مختلطي المساكن والدور، ثم أصحاب المهن دون هؤلاء غير معدودين في طبقة غير الصناعة ويسمون ((أنتز)) وهم ثمانية أصناف” (البيروني، 1983)[3] وعلى ذلك توجد طبقات أخرى لا قيمة لها ذكرها البيروني في وصفه وهي: “وأما ((هادي)) و ((دوم)) و ((جندال)) و ((بدهتو)) فليسوا معدودين في شيء وإنما يشتغلون برذالات الأعمال من تنظيف القرى وخدمتها، وكلهم جنس واحد يميزون بالعمل كولد الزناء فقد ذكر أنهم يرجعون إلى أب ((شودر)) وأم ((برهمن)) خرجوا منهما بالسفاح فهم منفيون منحطون” (البيروني، 1983)[4]
علاوة على هذه الطبقات، تحدث البيروني عن الصفات التي يجب أن تتحلى بها كل طبقة من هذه الطبقات وهي كالآتي: “يجب أن يكون ((البرهمن)) وافر العقل، ساكن القلب، صادق اللهجة، ظاهر الاحتمال، ضابطا للحواس، مؤثرا للعدل، بادي النظافة، مقبلا على العبادة، مصروف الهمة إلى الديانة” (البيروني، 1983)[5] أما بالنسبة للطبقة الثانية “وأن يكون ((كشتر)) مهيبا في القلوب، شجاعا، متعظما، ذلق اللسان، سمح اليد غير مُبال بالشدائد حريصا على تيسير الخطوب” (البيروني، 1983)[6] أما الطبقة الثالثة “وأن يكون ((بيش)) مشتغلا بالفلاحة واقتناء السوائم والتجارة” (البيروني، 1983)[7] وفي وصفه للطبقة الأخيرة فهي “و ((شودر)) مجتهدا في الخدمة والتملق، متحببا إلى كل أحد بها” (البيروني، 1983)[8] ذكر البيروني عقيدة الخلاص عند الهنود وقولهم فيها “فقال بعضهم: إن الخلاص ليس لغير ((البراهمة)) و ((كشتر)) ما لا يمكنهم فقط من تلعم ((بيذ))، وقال المحققون منهم: إن الخلاص مشترك الطبقات ولجميع نوع الإنس إذا حصلت لهم النية بالتمام” (البيروني، 1983)[9]
لقد درس البيروني جميع جوانب حياة الهندي فلم يكتفي بجانب واحد، وفي ذلك يتحدث واصفاً كتبهم الملية فيقول: “((بيذ)) تفسيره العلم لما ليس معلوم، وهو كلام نسبوه إلى الله تعالى من فم ((براهم)) ويتلوه ((البراهمة)) تلاوة من غير أن يفهموا تفسيره ويتعلمونه كذلك فيما بينهم يخذه بعضهم من بعض ثم لا يتعلم تفسيره إلا قليل منهم وأقل من ذلك من يتصرف في معانيه وتأويلاته على وجه النظر والجدل؛ ويعلمونه ((كشتر)) فيتعلمه من غير أن يطلق له تعليمه ولو لبرهمن، ثم لا يحل لـ ((بيش)) ولا ((شودر)) أن يسمعاه فضلا عن أن يتلفظا به ويقرآه وإن صح ذلك على أحدهما دفعته البراهمة إلى الوالي فعاقبه بقطع اللسان” (البيروني، 1983)[10] وفي وصف كتابهم ((بيذ)) يتحدث البيروني عنه كما وجد أهله عليه فيذكر: “ويتضمن الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب بالتحديد والتعيين والثواب والعقاب” (البيروني، 1983)[11]
من خلال البحث والقراءة في مضامين كتاب البيروني “ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذوله”، حقيقةً لم يغفل البيروني عن أي جانب في حياة الهنود الهندوسيين فتناول الوصف في عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم وطعامهم ولباسهم وأعيادهم وأسلوب حياتهم وشرائعهم وأنظمتهم وحتى خواص لغاتهم. كما تعامل مع دراسته لهم بحيادية فلم يقارن أو يتطرق لما هم عليه إلا لمحاولة فهمهم لا نفي وإنكار معتقداتهم وهذا لُب الدراسة الموضوعية.
البيروني، أبي الريحان. تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذوله، الطبعة الثانية. بيروت: عالم الكتب، 1983م. ص39..[1]
أبي الريحان البيروني، هو محمد بن أحمد البيروني (2 ذو الحجة 362هـ /5 سبتمبر 973م | 29 جمادى الآخرة 440هـ/9 ديسمبر 1048م) باحث مُسلم ورحالة ومؤرخ وفيلسوف ومترجم وفلكي وجيولوجي، وجغرافي، ورياضياتي، وصيدلاني. كتب ما يزيد على 120 مصنفاً ويُعد البيروني واحد من أعظم العُلماء المُسلمين في عصره ويعتبر من القلة الذين درسوا معظم أو كُل مجالات العلوم، ولكن سنُركز في دراستنا على المجال الديني أو أدب الرحالة للبيروني المتعلق بدراسته للأديان والعقائد الأخرى.